الأحد، ١٨ نوفمبر ٢٠١٢

الصعيــــد .. مــات !!

استيقظت مصر كعادتها - خصوصاً في الآونة الأخيرة - على فاجعة جديدة تهز أرجائها ليس فقط لكونها محلية ، ولا لتكرر الحدث ، وإنما لكون الضحايا من الأطفال في واقعة تجعل الجميع يشعر وهو يتابع وكأنه يفقـد أحداً عزيزاً عليه ، رغم أنهم لا يعرفون الضحايا أو ذويهم بشكل شخصي إلا أن الشعور العام الذي اجتاح مصر من أقصـاها إلى أقصـاها كان يحمل روحاً فياضة من التعاطف والحزن العام وكأن مصر كما قال البعض فقـدت شكلاً من أشكال مستقبلها وهو في طريقـه ليصـاغ ويُشـكّل لإنتـاج "شاب عالم وفتاة باحثـة " ، ليصبح البدل عنهم ثمن تليفون محمول وفي انتظار رحلة العمرة وكأن كل إمراة مصرية عجزت عن أداء فريضة الحج أو العمر ما عليها سوى أن ترسل إبنها لمكان وستتكفل الحكومة بالباقي ..!! سـؤال وحيـد يعتصـر صدر مصر وهي ترى فلـذات أكبـادهـا تحتضنها - بدلاً من صدر حنـون لدولة ثورية فتيـة - .. مقدمة قطـار !!

سؤال لن يجيب عليه أحد من القابعين على كراسيهم الوثيرة : هذه النفــوس البريئة الطاهرة .."بأي ذنــب قتلت"!!؟


هكذا كان هذا المشهد متناغماً في المشاعر حتى غربت الشمس ، فما أن جنّ الليـل حتى استعاد الشعب " المكلوم نفسه" عاداته المفضلة بالانقسـام على نفسه ووضع قوالب محددة للفئة التي يجب أن يتشكل عليها من يريدون أن يصبحوا منه وله ، ففي هذه الليلة كان الناس على موعد " مسبق" لمشاهدة نهائي بطولة أفريقيا لأبطال الدوري والتي كان الأهلي طرفاً فيها ولن أسهب في الظروف التي مر بها الأهلي وجمهوره حتى باتت هذه البطولة أهم من كل البطولات التي حصل عليها في تاريخه السابق وربما اللاحق أيضـاً.
إلا أنني هنا بصدد التطرق إلى نقطة أخرى واكبت الحدث ، وتمثلت في كم " المزايدات " التي تعرض لها جمهور النادي الأهلي عموماً وجماهير أولتـراس على وجه الخصوص تعلقت في البداية بمشاهدة المباراة في حد ذاته رغم ما تمر به البلاد من ظروف عصيبة ، وما تخلل ذلك من توتر وانفعال البعض جراء تفاعل الجماهير مع كل لمحة بالمبـاراة ، ثم كانت الطامة الكبرى بخروج البعض في الشوارع للاحتفال بهذه البطولة لتقابله موجة مضادة " حسب قوانين نيوتن" من السب والقذف والتهجم على النادي والشعب والجماهير في اختزال تام لكل معاني الإنسانية والوطنية لمتتبعي فعله وأسلوبه فقط ، والأهم تعرض أولتراس كما أشرت لذلك مع توضيحهم أنهم امتنعوا عن الاحتفال تضامناً ..!


وهنا كان لابد من توضيح بعض الأمور تباعاً حسب رؤيتي المتواضعة للأمر ، فرد الفعل هذا لم يأت - في أغلبه - سوى ممن لا تمثل لهم كرة القدم سوى أمر ثانوي أو لا تمثل له شيئاً على الإطلاق ، في حين يحكم على أناس تشبعت دماءهم بالكرة وأصبحت جزءا من حياتهم وبطبعهم بسطاء على سجيتهم لا يكيلون المور كما يقوم هو ، فهو يحكم على الأمر من وجهة نظره ولعل بعضهم لم يكن ليفوت حفلاً موسيقياً لو كان من الذين يحبذون الفن أو رحلة خارجية لو واتته الفرصة التي لن تتكرر وسيتحجج وقتها بالظروف والتوقيتات ، والأمر الثاني أنه يحكم على أناس لا يعلم مكنوناتهم ومدى حاجتهم لشيء يهربون به من الواقع الأليم الذي يمرون به فليس طاقات البشر متوازية ولا متساوية .
 لكن الأهم لديّ أن المزايد هذا لم يكن يتحدث من منطلق منطقي يعود بفائدة وهدف معين على المصاب الجلل فلم أجد منهم من يدعو لخطة معينة للتخفيف عن ذوي الضحايا أو الإتيان بحقوقهم أو تقديم يد المعاونة لمعالجي المصابين ، كل ما هنالك أنه يبحث عن " مشاركة عاطفية" ومواساة وجدانية لأننا شعب يحب أن ينغمس في الشيء حتى الثمالة حزناً كان أم فرحاً ، فكان الأمر - عندما بحثته- أشبه بمعاتبة عجائزنا اللاتي يشتكين من أن " فلانة" لم تقدم لتعزيتها وأن الأخرى لم تسلم عليها بطريقة مناسبة . وكأنهم أشربوا في قلوبهم عادات الانقطاع عن الفرحة بالسنة والسنتين كأننا نعاقب المولى أن أمدنا ببعض المصائب في حياتنا ..!!إنني بالطبع لم ولن أكون ضد التعاطف المعنوي لكن أوضح فقط أن يهتم المرء بذاته ومشاعره ، لا أن يفرضها على غيره دون علم بظروفهم ونفسياتهم . 

وإن كان هناك سبيل للمزايدة فالأحق أن نسأل هؤلاء من منهم يعرف كم المآسي التي يعاني منها الصعيد على مدى عقود دون نظر أو التفات ، كم واحد رأي شظف العيش الذي ربما يكون الموت الذي حزنوا بسببه أوفر حظاً ونصيباًأحياناً عديدة ، هل يجب أن نزايد أيضاً ونتساءل من يعرف أن المستشفى التي لم يجدوا فيها " بايكربونات الصوديوم" هي أكبر وأقوى المستشفيات ليس على نطاق المحافظة فقط ، وإنما تخدم كل المحافظات في الصعيد كافة فإذا وجد الطبيب الحالة قوية أو مستعصية حولها من سوهاج أو قنا أو أسوان ولا توجد مستشفى بكفاءة ما رأيتموه وكلهم يفدون إليها من كافة القرى والمراكز ويحمدون الله ، أم هل أتساءل من رأى من قبل شاباً يتزين أمام المرآة فيقول له صديقه أو أخوه " ياعم انت فاكر نفسك في مصر" !!ياااه كم هي مؤلمة هذه الكلمة لمن يحس وقعها وكأنه يقول له الحياة لمصر ..المحروسة ..أم الدنيا فقط نحن لسنا مصر ، نحن يكفينا أن نعيش على الفتات ..هذا وإن بقي الفتات . هل فعلتم أيها الباكون شيئاً لهؤلاء أم أن ضميركم ارتـاح إلى أنه قبل ذهاب هؤلاء الصغار بزمن كان ..الصعيد قد مات !

السبت، ٧ أبريل ٢٠١٢

خيــوط المـؤامرة .. والمقـامـرة !

" خيـوط من الدخان - مع ضوء خافت - تتصاعد من وسط مبخرة موضوعة على منضدة طويلة.. يتضح ذلك عندما يبتعد الكادر مبيناً تلك الوجوه المنحنية في صمت تأملي أمام الشمعدان السداسي بلحاهم الكثيفة والوشاح المميز الموضوع فوق قلنسوة الرأس والذي يميز رجال الدين اليهودي مع تمتمة جماعية يقول كل منهم فيها جزءا خاصا به مشكلةً حساً هارمونيا خاصا.. آه لا يجب ان ننسى الخلفية الجدارية ذات الملمس المخملي الأحمر التي لاتكتمل صورة المؤامرة دونها " .
تلك هي الصورة التي ترتسم في مخيلة كل من يشاهد حلقات برنامج الأستاذ " ابراهيم حجازي " وهو يتحدث عن خيوط المؤامرة التي تتكشف على يديه بعد اأن كانت تحاك في الخفاء حتى استطاع اكتشافها وسبر أغوارها بواسطة ضيوفه المميزين بأفكارهم -وخواتمهم الكبيرة -وطرق تحليلهم لكل صغيرة وكبيرة في هذه المؤامرة الممتدة الأطراف التي ترغب بتقسيم مصر واحتلالها ، لم أقصد باتخاذ حجازي كمثال أن أختزل كل القضية في برنامجه كما أني لا أستطيع أن أنكر ما أكنه لهذا الرجل من تقدير على وطنيته وانتماءه ، ووضوح عدم ابتغاءه إلا وجه الله والصالح للمجتمع . إلا إن ذلك قد ثبت أنه لا يكفي للعمل العام بل وأثبتت التجربة ان المشاكل السياسية والرؤى المضطربة لا تأتي إلا عن طريق أصحاب النوايا الحسنة كما أن اختيار البرنامج كمثال كان لهذا السبب بالتحديد حيث يعمل بصدق الاحساس بالمسؤولية دون أن يعلم أنه بهذا العمل - بدلاً من أن يقدم خدمات جليلة للوطن - فإنه يقوم بما لا يحلم به العدو الذي يتحدث عنه بتصديره للشباب وللشعب عموماً ما يسمى بـ.. الطاقة السلبية .
وهذا المفهوم هو بوضع المتلقي في خانة من الاحساس بالاضطهاد المتواصل الذي يصل إلى حالة من العجز وعدم القدرة على التفكير " ساهم حجازي في ذلك بأسلوبه المتلعثم ونواحه المستمر" الذي يؤدي إلى حالة من التشتت النفسي والهبوط المعنوي العام ومن ثم الوصول إلى شيء من التسليم بالأمر الواقع وفي أحسن الأحوال انتظار المنقذ والتعلق بالآمال والبكاء على الأطلال .
إننا لا ننفي بالكلام السابق وجود المؤامرات ، بل إن أقل المتابعين للسياسة ودهاليزها سيقول لك إنها ركن رئيس من العلاقات بين الدول مثلها مثل الديبلوماسية والاقتصاد وكذلك ..الحروب ، إلا أن العيش على وهم أن العالم كله يتكاتل علينا ويرغب في نهش أجسادنا أحياءً ليس سوى نتاج لقلة وعي وثقافة وثقة بالذات ، والأسواء أن يصبح هؤلاء الجاهلون هم الذين يتكئ عليهم الناس في رسم الخطوط العريضة للفكر السياسي والاجتماعي من سياسين وكتاب واعلاميين وغيرهم . فأصبح الجميع في عالمنا العربي - وليس في مصر فقط - يعيش على هذه المبررات لتخاذله وقلة حيلته كذلك الطفل الذي لا يجد سبباً لبلادته وقلة تحصيله العلمي غير إن المدرس " يستقصده " ليتقوقع داخل هذه الفكرة وتكون منهجاً يمنعه من أن تبادر نفسه لصنع التغير في حياته .
إن من الجهل الحقيقي أن نعتقد أن الأمريكان قد نسوا ما بينهم وبين "اليابانيين " بعد الحرب أو أن " الانجليز " والفرنسيين " باتوا يحبون " الألمان " الذين يملكون صلافة وحبا للذات لا يمكن أن يصنع صداقة حقيقية مع أي أحد ، لكن في نفس الوقت أي من الشعوب - سوانا نحن- لم يرزخ تحت فكر يتمثل في جزيرة من الضعف تحيط بها مياه المؤامرات من كل جانب .. ، وربما كان هذا سبب نجاحها في كل مرة .
لعل المؤامرة الحقيقية العالمية ربما تتمثل في صناعة رأسمال شجع لا يبالي بالضعيف ، وبعيداً عن التنظير الشيوعي فإن الاشكالية الحقيقية ليست في رأس المال بقدر ما هي في أسلوب الادارة التي تتحكم في مجريات العالم ككل فيما يسمى بالـ corporate system.
وهي مجموعة من الشركات الكبرى التي تتمخض عنها شركات أصغر فأصغر لكنها في آخرها تصب في بوتقة واحدة تجتمع عندها رؤوس أموال العالم عن طريق هذا التشعب ، ويملي أصحابها الارداة على كل الأنظمة وربما تكون المفارقة أنهم من يصنعون الحروب بأسلحة " شركاتهم".. ثم يلزمون الدول على إعادة البناء "بشركاتهم " أيضاً ..ثم يستولون على كل تعاقدات النفط والتصدير والشحن ..الخ " بشركاتهم" .
وتتجلى المؤامرة الحقيقية في تغيير الثقافة العامة ونمط ورؤية اسلوب حياتنا بما يتناسب ومصالح هذا الشركات التي خططت لأن نصل إلى هذه المرحلة تدريجياً ، حتى بات " المايكرويف" مثلاً أحد أهم احتياجات ومتطلبات العروس التي كانت جدتها تجمع الحطب لتطبخ عليه . وبالطبع فإننا جاهزون دائماً بالحجة المناسبة .. " الزمــن تغيّـر ".
وبهذا نستطيع أن نخرج من المنهج الذي وضع أسسه الصحابي الجليل " أبو ذر الغفاري" والذي تتلمذ بحق على يد النبي الكريم صلوات ربي عليه وآله ، فاقتنـع - أبوذر- بأن " مـا زاد عن حـاجتك يدخل تحت بند الإسراف". لكن لهم طرقهم وإعلاناتهم بأن كل ما حولك هو من احتياجاتك والذي لم تصنع يداك حتى الـ10% منه .
والأكثر طرافة ما أخبرني به صديق عزيز من نشرهم ثقافة إبهارنا بأسلوب العمل في مجالهم وتحت إمرتهم بل ويضعون لك العراقيل لتصدق إن العيب في اسلوب تفكيرك وطريقة عملك أنت ، لكن ما أن تطأ قدماك المكان عندهم حتى تكتشف رخاوة كل تلك الأقنعة المزيفة لأسلوب العمل المميز . بل إنهم - بعد أن تصبح في عهدتهم- يرجعونك عقلياً ونفسياً بأساليبهم إلى مبدأ أن " الشـاطرة تغـزل برجل الحمار" كما يقول المثل . لتكتشف بعدها أن الفرق بين الفريقين نحن وهم - لا يكمن إلا في كلمة واحدة .. "العمــل " وكل خططهم وأفكارهم تنشر بحيث تصدق أنهم الأفضل فيه . وأنك لا تسوى شيئا دونهم .
هذه هي المؤامرة الحقة وأصحاب هذه الشركات ليست لهم أي أيدلوجية تذكر سوى المال والنفوذ ولا يكترثون بالنظام الداخلي المتبع في الدول مادام لايتعارض مع مصالحهم "ديكتاتورياً كان أم ديموقرطياً أو حتى .. مهلبياً " المهم ألا تتأثر مصالحهم وإلا حركوا الجيوش الجرارة لذلك بأوامرهم لقادة وضعوهم في تلك الأماكن لا لشيء إلا لتسيير هذه المصالح .
ولنعد إلى بداية المشهد الخاص بالبخور والأدخنة فإننا لانستطيع ان نغفل وننكر وجود مثل هذه المخططات لكنها لا تصدر إلا من مختلين غير متوازنين نفسياً ومتواجدين في كل العقائد والمعتقدات تسيطر عليهم روح الأسطورة ويغذيها استسلام أتباعها لأيقونات بعينها " دينية أو سياسية" . لكن المحرك الأساسي لكل خطوة منها لن يكون إلا بأمر "رأس المال" المتحكم ولا يستبعد البعض إن تشجيع هذه الشركات لقيام دولة اسرائيل منذ بداية القرن كان لهدفين أولهما : إبعاد اليهود عن مركز لعبهم في أوروبا لما يمثلونه من خطر " لا يفل الحديد ..." ، وكذلك ليتمكنوا من جعله كلب التخويف للمنطقة يطلقونه كلما بدت من العرب بادرة عصيان أو محاولة شم أنفاسهم . وساهم في ذلك ما زرعوه من فكرة القوة الخارقة للصهيونية وقدراتهم المخابراتية والعسكرية مما تتداول بيننا وأصبحنا مؤمنين به حتى بعد ثبوت هشاشته بحرب 73 .!!!
جانب آخر من ترسيخ الفكر المؤامري "المبالغ فيه " يكمن في رغبة الساسة وبعض أيقونات للدين أن يسبغوا على أنفسهم هالة معينة بأن يوجهوا العقلية الجمعية نحو فكرة الالتفاف حول الزعيم الملهم المنقذ وهو ما تجلى في الفكرة الشهيرة .." أنا أو الفوضى "!
والعجيب أن يتم استخدامها الآن بكثافة من شخص أو فصيل أو فشة معينة - وينتظر أن تمتد وتتكاثر مع اقتراب موعد الصناديق- في توجيه الناس نحو سراب معين بهدف تحقيق منصب أو كرسي زائل " كما تم استخدامها في غزوة الصناديق والمادة الثانية " بأسلوب رخيص لا يفكر صاحبه في رد الفعل النفسي السيء والتخبط لدى الشعب عندما يكتشف أنه تم استغلال ثقته وعدم إلمامه باروقة السياسة ومحاورها .
لقد اتضح للناس أن المؤامرة ليست خارجية فقط كما كانوا يظنون ، بل إن الخارجية منها - كما أسلفنا - واهية خاصة أنه يبقى عدونا وسنحذره ، لكن الأشد إيلاماً وتأثيراً في الشخصية الاجتماعية والبناء الذي كنا نرغب في اعادة توجيهه بعد أن تفكك .. هو المقامرة بنـا من أجل حفنة من الكراسي من جانب البعض ..
أو الأنكى بتسليـم "رفقاء المصيـر "لرقــابنــا جميعـا لتصبح تحـت سيـف " الحـجـاج " مرة أخــرى ، مصدقين - أو راغبين في تصديق - تشدقـه بأنه قـد خرج عن طـوع ..بني أميّـة !

الجمعة، ٢٣ مارس ٢٠١٢

بيـن التطبيـق .. والتطبيـل !

مرت الفترة الماضية - حتى بدء الاسبوع المنصرم - بذلك الهدوء المشوب بالحذر على صعيد الشارع المصري ، ولم تكن المواضيع المطروحة تحمل نفس الطابع الساخن المعتاد منذ قيام الثورة ، وبدا ذلك واضحاً على البرامج الحوارية التي باتت مؤخراً " ترمومتراً" نستطيع من خلاله قياس نبض وسخونة الأجواء المحيطة بنا حتى وإن كنا بعيدين عن مسرح الأحداث ومطبخه .
إلا أنه مع بداية الأسبوع تقريباً شهدت الساحة أكثر من حدث متسارع وذو طابع حيوي شغل وأشغل الرأي العام ليس فقط بالحدث نفسه ، وإنما ما تخلله من ردود أفعل كان تأثيرها هو السبب الرئيس للرغبة في اللجوء إلى بعض من التأمل على هذا الكرسي برويّة ..
فكما هي عادتي ألا أتحدث عن حدث بعينه معلقاً عليه أو منتقداً إياه هنا ، وإنما تكون الجلسة لتحليل الجوانب المتعلقة والتي ارتبطت بهذا الحدث من ناحية مجتمعية وفكر عام لا يبرز إلا في مثل هذه المواقف ، ولعلي أكون أكثر وضوحاً حين أشير إلى الجدل الذي صاحب رحيل البابا شنودة بطريرك الأقباط " أو عظيم القبط " كما نستطيع أن نطلق عليه ، ولا أستطيع عند تطرقي هنا لهذا الحدث أن أخفي تحفظي على بعض مواقف البابا وخاصة في الآونة الأخيرة خاصة بعدما عمد البعض إلى الباسه ثوب البطولة على طول الخط ، والذي أخشى أن نتعدى به خط المجاملة لنرتدي على إثره ثوب "النفاق " الاجتماعي والذي أصبح سمة من سماتنا في العصر الحالي .
أردت فقط أن أوضح هذه النقطة قبل أن أشرع في توضيح الفرق بين رفض وضع الهالة الزائدة على الشخصيات العامة ونسب ما ليس لهم إلى أفعالهم وبين أن ننحي جانباً ذلك الشعور الانساني بجلال الموت وقوة وعظمة الموقف في حد ذاته والذي لم يرد في جميع الأديان من استهتر به كما نراه الآن .. ربما نلتمس العذر أحياناً لبعض التصرفات الهوجاء والغريبة على مجتمعنا المعروف بأنه مسالم بأن نضع في حسباننا أن هذا نتاج فترة تردت فيه معاني القيم إلى أدنى مستوياتها ،ومن هذا المنطلق فإني قد أسامحك على كل ما يبدر منك من نوازع نفسية تجاهي أو تجاه الآخرين مع الوضع في الحسبان كافة الظروف التي أدت إلى انحدار هذه النفس إلى هذا الحضيض ، لكننا أبداً لن نستطيع السكوت عن إلباس هذه التصرفات وشاح الدين وإيهام الناس بأن ذلك من عماده وإلا كنا مثل أولئك الذين كلما سئلوا عن اخطاء اقترفوها قالوا إن الله أمرنا بها! خاصة وأن ذلك قد يبدو معقولاً في منهج أناس تعتمد عقيدتهم في الأساس على السب واللعن " كالشيعة " ولكن كيف لنا أن نحاول أن نرسي لدى العالم الصورة الحقيقية لديننا الحنيف الذي يقوم على السماحة والانسانية ومن ثم لا ينعكس ذلك على تصرفنا ويصبح كأنما هو موضوع تعبير في حصة اللغة العربية لا طائل من وراءه سوى الحصول على بضع درجات . خاصة بعد أن تعمدنا ان نرتدي تلك الأقنعة الكاريكاتورية "الهوليودية" للشخصية المسلمة المقطبة الحاجبين والتي لاتكترث إلا بمزيد من الدماء تشربها نخبـاً لانتصار زائف .
إن هذه الصورة تتمثل أمامي كلما قرأت تعليقاً مريضاً كالذي كان منذ قليل من بعض الحمقى على موضوع آخر بخصوص صبي صغير قتل في أحداث بورسعيد ومحاولات اقتحام قناة السويس فمهما كان ذلك الصبي مخطئاً فإن نبرة التشفي والغل التي داخلنا لا ينبغي أبداً أن نرى صاحبها فيما بعد يتكلم عن رغبته في ارساء دعائم الحكم الاسلامي والخلافة القائمة على أطر التسامح والشفقة على الضعيف وتلك المثل الأفلاطونية التي لا يمكن حدوثها إلا في خيالهم ، ذلك الخيال الذي يصور لهم أيضاً الحل في قدوم أناس بزي معين وهيئة معينة وأسلوب كلام معين يهيء للرائي أنهم الأجدر بتطبيق الدولة الاسلامية الحقة .. ولا أعلم أي دولة تلك التي تقوم على الحقد والبغضاء وما تخفي نفوسهم أكبر !
إن دولة الاسلام الحقيقية لا تتحقق باللحى والمشاهد فقط ، ولا تتحقق بأن تكون غايتنا فقط تطبيق الحدود حتى نسعد برؤية المئات وقد قطعت أيديهم وآخرون قد صلبوا وغيرهم بين مجلود ومسجون .. ولعلي أتصف ببعض الجنون كلما تذكرت أن بعضاً ممن نطلق عليهم لفظ " البلطجية " -فقط لكونهم من رقيقي الحال- لديه من " المجدعة " كما نطلق عليها .. مالا تجده لدى غيره من " البهوات " الذين لم يكن من سرق قوت الشعب وأذله طوال الفترة الماضية إلا من طبقتهم ومن بينهم ، ولهذا لم تنظر دعوة الاسلام إلى "بلال" كما ينظر إليه السادة وأصحاب الكلمة العليا وإنما كانت كلمة الفصل أن انتظروا حتى تتسـاوى مواضعكم فانظروا ما يفعل كل منكم ليظهر معدنه .. وهذا ما كان .!
فلعل هؤلاء الذين يطلقون الأحكام على الأمور ويقذفون كل من يخالفهم بأنه فاسق وزنديق لو درسوا تاريخ صاحب الدعوة بحق لعرفوا أنه لم يطبق هذه الحدود إلا في أضيق حد والأهم من ذلك هو أنه متى قام بتطبيقها ..!؟
بعد أن استتب الوضع لأهل أمته و" آخى " بين أبناءها بأن جعل لكل منهم أخا له لم تلده أمه ، ولعل من الطريف أن نرى في السيرة خلافاً على معرفة من الذي آخى النبي صلوات الله وسلامه عليه بينه وبين فلان لأنه كان أقرب لغيره وأكثر ألفة معه ،ولم يكن الشريف بمنأى عن الوقوع تحت حد القصاص لجاه أو منصب ولم يكن الضعيف يؤخذ بملبس أو هيئة دون دليل ولا لأنه من قوم بينهم وبين الحاكم ضغينة أو عداوة وكأني ألمح صورة الإمام علي كرم الله وجهه وهو يرفض قتل غريمه بعد أن تمكن منه في اللحظات الأخيرة لا لشيء سوى أن ذلك الكافر قد بصق على وجهه الكريم ، فأعرض علي عنه ولما سئل عن ذلك قال " لقد أحسست في نفسي غضبة من عمله وما كنت ضارباً سيفاً في غضبة ليست لله"
فوضحت عندها الصورة أن الذي شرع الحدود لم تكن بغرض الانتقام والتشفي كما هو حالنا وإنما كان المرحلة الأخيرة لتسوية الأوضاع بعد أن استتب الوضع الاجتماعي بين أنـاس قال الله فيهم .. " رحمـاء بينهم " !

السبت، ١٧ مارس ٢٠١٢

عاد إليـكم من جـديـد .. !!

وها انا أحط الرحال مرة أخرى على هذا الكرسي بعد غياب دام قرابة العام للاسترخاء وإعادة التفكير في بعض الأمور - كما هي عادتي - بنظرة متأنية . وقد يكون الاختلاف بين التواجد هنا وبين التنقل من هنا إلى هناك أني أجد في الكرسي جانباً من المتنفس بعيداً عن الشعارات النارية والمانشيتات المشتعلة " بالوثـائق وبالمستندات" والتي تشعرك بأن ما ينقص الجرائد أن توزع أعدادها القادمة مع اسطوانة موسيقى "رأفت الهجان " حتى تدخلك اكثر في جو الإثارة المرجوة والتي لا أظن أنها تحتاج إلى مزيد من المؤثرات في الوقت الحالي بالذات .
في الواقع إن معرفة الحقيقة أمر جيد ومطلوب لوضع الأمور في نصابها .. لكننا يجب ألا نغفل عن أن طباعنا تتسلط على الأشياء من حولنا ولا تتركها إلا بعد أن تكسبها ذلك اللون القاتم ومن ثم تنتقل إلى غيرها بحجة أنها باتت لا تصلح متناسين أن هلاكها وعطبها لم يكن إلا بأيدينا نحن ، وهذا ما حدث بالضبط مع " الثـورة " .!!
فقد تحامل على الثورة الكثير من المنتفعين أو العاطفيين الذي لا يقيمون الأمور بمفهوم اجتماعي موزون يصب في مصلحة قومية مشتركة وإنما يحصلون على منفعة شخصية وقتية ، لكن خطر هؤلاء - في نظري- لم يكن أقوى وأخطر على الثورة من خطر ثقافتنا التي طبعناها عليها ، فمن المعروف أن كل فكر وثورة جديدة لا بد ان تقوم بتغيير المفاهيم السائدة في المجتمع وتقوم بالانقلاب عليها ووضع أسس صحيحة وملموسة . إلا أن ثقافاتنا المتوارثة والتي ترسخت على أيدي الأنظمة السابقة أصبحت كأنها جزء من كينونتنا وباتت هي من تقود الثـورة ..لا العكس !!
ويتجلى ذلك في أصعب هذه الموروثات تأثيراً على نمط حياتنا .. " التطرف "!
فنحن شعب - كمعظم شعوب البحر المتوسط - عاطفي للغاية لا نرضى بالاسلوب العملي والمنطقي على طول الخط وإنما نأخذ منه جزء بسيط ومن ثم نبدأ بتشكيل وعينا مرتبطين بالمشاعر والأحاسيس تجاه الشيء حتى ينتج عن تفاقم هذه الأفكار المتشبعة بالعاطفة نوع يصعب تغييره من التطرف وهو الأخطر نوعاً كونه ارتبط بـ" اللامنطق" وهو ما يفسر لك الجواب السريع عند سؤالك عن سبب لأي مما يعترض منطقك وتراه متمثلاً امامك بإنه .. " هـو كده " !!
وهو الرد الذي يستطيع به صاحبه تفسير سلوك ينجم عن سيطرة العاطفة على تصرفاته .
ويعود السؤال عن دخل كل هذا الكلام المتشابك بموضوع الثورة .!؟

فأعتقد أن الإجابة لا تحتاج سوى لتنقل البصر بين مايحدث حولك لتجد الاجابة الشافية على كل ذلك .. فمنذ سقوط رؤوس النظام في فبراير 2011 وحتى الآن لم ترقَ أي من تطلعات غالبية الشعب - وما أبرئ نفسي - إلى مرحلة الرؤية الموضوعية للأزمات والبحث عن حلول منطقية تخضع لمعايير وأسانيد تمكنا من تنفيذها ولو على مراحل ، فابتداء بالقائمين على إدارة البلاد المؤقتة ظل العمل الخاص بمصالح المواطن خفيّة وطي الكتمان وتقع ضمن إطار "أسرار الدولة العليا" بما يبعث كثيراً من علامات التعجب والاستفهام لكونه أحد أشكال التطرف الذي نحكي عنه .. وربما كانت زيادة الأزمة باعتقادهم بأن الحل في مساندة الطرف الوحيد الجاهز للاستفادة من نتائج هذه الثورة والتعامل مع الشعب بنفس المنطق القديم بتهميشه عن مسرح الأحداث ..!!؟
مما يضعهم - اولئك القائمون - إما في خانة المتواطئ بتعاطفه مع ما تبقى من أشكال الفساد ومن يرتع فيه . أو في خانة الفاشل في حل الأزمات مع علمهم أن الشعب ليس في حاجة إلى أكثر من وضع أطر وقواعد - ولو احتاجت أزماناً للتنفيذ- حتى يرى النهج الذي عليه السير فيه ...ليس أكثر !

وبمرورنا بعد ذلك على أحد أهم أطراف القضية وهم أصحاب الحاجات " المركونة " على الرفوف لعشرات السنين نجد ان كل منهم قد شرع حال وقوع النظام إلى تقمص دور التاجر المفلس للبحث في أوراقهم التي تمكنهم من نيل أكبر قدر من الاستفادة في هذا الوقت . ولعلي لست الوحيد من وصل إليه ذلك الشعور الذي ينتاب بعضهم من أن ما يحدث حوله ربما لا يعدو أن يكون سوى مسألة مؤقتة وسرعان ما يعود الحال لسابقه.. وذلك الشعور ناجم عن ثقافة متطرفة في فقدان الثقة بالنفس واللهفة على الحصول على اكبر " حتة لحمة " قبل اغلاق السوق والتبرعات .

وثالث الأطراف التي تشكل جزءاً كبيراً من القضية هم أصحاب المبادئ والحراك منذ بداياته وهم الذين رفضوا الخنوع لذلك التسلط والجبروت ومساواة الفاسد لنفسه بالخالق الذي يوزع الأرزاق بين الناس .
وهؤلاء الثوار " على اختلاف مناهجهم الخاصة " كانوا دائما ما يرون بصيص نور الحق الذي لم يلحظه غيرهم لانشغاله بأمور الجري وراء حاجياته اليومية وعندما انبثق بقدرة الله من خلف جدران الظلم التي هوت وتداعت كان التسرع الوحيد هو ذلك الركض نحوها بشكل لم تتحمله الأعين ولكن روح الصمود داخلهم كانوا يرون أنها الباعث لهم على اكمال التقدم السريع وإن لاحظوا أنهم كان يجب أن يأخذوا الأمر بالتدرج .. وسرعان ما ضعفت أعينهم عن التحمل وحدث التخبط بينهم وبين بعضهم كذا مع غيرهم من الأطراف ولعلهم لو صبروا وأعادوا حساباتهم لما كانوا الفصيل الوحيد الذي لم يحصل على شيء من نتاج عمله بل على العكس باتوا مرمى السهام كما حدث مع "رماة يوم أحـد" .
وبالحديث عن يوم أحد يسوقنا الحديث عن أن من مواقفنا المتطرفة أن نعمد على اقصاء كل من مر من أمام مقرات الفساد وإن تيقنّا من أنه لم يكن سيفاً من سيوفه وإنما كان يرغب في أن يواصل حياته متماشياً مع الضعف الانساني الذي هو سمة الطبقة العامة التي تجاري الأقوى غالباً..
ولعلنا نعلم جميعاً أن الذي التف على جيوش المسلمين يوم أحد هو ذاته صاحب المعارك الذي لم يهزم في احداها . وفتوحات الشام وفارس أكبر شاهد على ذلك . لذا فإن التطرف الأكبر هو عدم الاستفادة من القدرات التي لا تحب الفساد وسد الطرق في وجوههم بحيث لا يتبقى من وسائل العيش سوى الاعتماد على سلوك طريق الافسـاد ربما رداً على هؤلاء وانتقاماً من وقوفهم في وجهه .

الخلاصة أننا نحن شعب متميز .. حتى في انطباعه عن الأشياء . بعضنا يحب ويكره لكنه لا يكلف نفسه بالبحث عن الحقيقة .. والبعض الآخر يعمد إلى إظهار كافة الحقائق دفعة واحدة لا بقصد الحل وإنما للرد على توجهات الآخرين والنيل منهم . وتستمر الدائرة بهذا العداء المستمر والرد المتوالي دون أن نجد حلاً متوازناً . فلا الفسـاد سينتهي ولا الحق سيزول لكن الأمور يجب أن تبنى على منطق واضح ورؤى متناسقة فيكون نتاجها كذلك.
كما الحال في الجذور والأغصان . وإلا فإن كل تطرف لا يكون ناتجه إلا كما في قوانين نيوتن عندها تجدون تطرفاً مساوياً له في المقدار ومعاكساً في الاتجاه .. عاد إليكم من جديد !

انتهيــت من القـــراءة ..استمع الآن !


بطـــل الحــــرب ...والســـــلام